ضريح عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول(صلى الله عليه وآله) / محمد صادق النجمي
يعدُّ المرقد الشريف لعبد الله بن عبد المطّلب ـ والد الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله)ـ من الآثار المعروفة في المدينة المنورة ، التي تقع خارج البقيع ، حيث كان محلاًّ للزائرين حتى عام (1976م) فبعد أن كان بناءً مشيداً
ضمّ الجسد الطاهر لعبد الله كما ذكرته كتب التاريخ ، تمّت إزالته بحجّة توسيع مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله)والسّاحات التي تُحيط به ، ولم يبقَ أيُّ أثر له اليوم .
قبل الدخول في تفاصيل وكيفية تشييد هذا الضريح على مرّ التاريخ ارتأينا من المناسب ذِكر بحث كلاميّ ولو بصورة موجزة حول إيمان والدي النبيّ (صلى الله عليه وآله) :
فقد تأكّد لدى علماء الشيعة ومُتكلّميهم وكذا بعض عُلماء أهل السُنّة ومُثقّفيهم ، وللأدلّة من آيات وأحاديث من كلا الطريقين السّنّي والشّيعي ، أنَّ والدَ الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وكذلك أجداده الكرام كانوا جميعاً
مؤحّدين ، وأنَّ أيّاً منهم لم تلوّثه أدران الشّرك أو الوثنية . وليست مسألة انتقال نور وجوده المقدّس عِبر الأرحام العفيفة والأصلاب الطّاهرة حتى استقراره في صُلب عبدالله الموحِّد وَرَحِم آمنة المؤمنة مقتصرة عليه (صلى
الله عليه وآله) وحده ، بل إنَّ الأنبياء الآخرين يمتلكون مثل هذه الخصوصية أيضاً إذ وُلِدوا جميعهم من أبوين طاهريين .
نظرة عُلماء أهل السنّة :
لجلال الدين السيوطي ، صاحب تفسير آ«الدرّ المنثورآ» ومؤلّف كتب كثيرة أخرى ، وأحد الشخصيات العلمية الموثوقة عند أهل السنّة ، بحث طويل ومُسهب ، نوجزه هنا :
يقول السيوطي في بحثه المذكور : لقد ثبت أنَّ أجداد النبيّ واُمّه وأباه ، الذين كانوا حُنفاء على دين جدهم إبراهيم (عليه السلام) ويعملون بشرائعه ، كما كان الحال مع كثير من الأشخاص في جزيرة العرب من أمثال ورقة
بن نوفل وزيد بن عمر بن نفيل ، الذين كانوا موحّدين يعبدون الله وحده .
ويضيف السيوطي قائلا : تعتقد مجموعة من علمائنا ومنهم الإمام فخر الرازي بهذا الرأي ، وقد أورد عدّة أدلّة في تفسيره آ«أنوار التنزيلآ» على ذلك منها الآية : }الذي يراكَ حين تقوم * وتقلّبكَ في الساجدين {(1) . يقول
الفخر الرازي ، (والكلام للسيوطيّ) : آ«يعتقد المفسّرون أنّ المراد من الآية الشريفة }وتقلّبكَ في الساجدين { ، انتقال نطفة الرسول (صلى الله عليه وآله)من صُلب الساجدين والموحّدين والمعترفين بوحدانية الله واحداً بعد
آخر . وهذه الآية دليل واضح على أنَّ جميع آباء النبيّ (صلى الله عليه وآله)كانوا موحّدين وحُنفاء لم يسجدوا إلاّ لله ولم يعبدوا إلاّ إيّاهآ» .
كما في قوله (صلى الله عليه وآله) : آ«لم أزَلْ اُنقلُ من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهّراتآ» .
وجاء في القرآن الكريم كذلك : }إنّما المشركون نجسٌ { فلو كان أجداد النبيّ (صلى الله عليه وآله)وجدّاته مشركين ، لما كانَ (صلى الله عليه وآله) أيَّدَ طهارتهم وأوثق عِفّتهم .
ثم قال السيوطي بعد نقله لأدلّة أُخرى عن الفخر الرازي :
إنَّ الفخر الرازي بإيمانه واعتقاده بقداسة وطهارة أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله)وببيانه لهذه الأدلة ، إنّما يضفي بذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشعراء : 218 و219 .
عظمة وفخراً; لكونه أحد أكبر وأعظم أئمة الدين ، والشخصية العلمية الفذّة ، التي تمكّنت من الإجابة عن كثير من التساؤلات ، ومختلف المسائل العلمية في زمانه .
وبدأ السيوطي بتأييد نظرية الفخر الرازي ، وذلك ببيانه لعدّة أدلّة عقلية ونقلية ، مورداً بعض الأحاديث عن البخاري والبيهقي وأبي نعيم ومحدّثين آخرين محاولا إثبات صحة هذا الموضوع ، وبالإشارة الى الأدلة التي
أوردها الشهرستاني والماورديّ (1) .
هذا وقد قام بعض علماء أهل السنة بتصنيف الكثير من الكتب والمؤلفات حول مسألة إيمان أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله)ووالديه ، وينفرد السيوطيّ وحده بمؤلفاته الأربعة حول هذا الموضوع وهي :
1 ـ الدرج الرّفيعة في الآباء الشريفة .
2 ـ المقاصد السّندسيّة في النسبة المُصطفويّة .
3 ـ التعظيم والمنّة بأنّ أبوي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الجنّة .
4 ـ السّبل الجليّة في الآباء العليّة (2) .
نظرة عُلماء الشيعة :
إنَّ مسألة إيمان والدي الرسول (صلى الله عليه وآله) ، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً ، وطهارتهم بل وقداسة ولادة جميع الأنبياء هي من المُسلّمات بل من السّمات البارزة في عقيدة الشيعة .
يقول الفخر الرازي : آ«قالت الشيعة : إنَّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً . . .آ» (3) .
وكلام الرازيّ هذا دليل واضح على عقيدة الشيعة واتفاق علمائهم حول هذا الموضوع ، بل إنَّ هذا الأمر كان نفسه جزءاً من عقيدة أهل السّنة ومن المسلمات عندهم .
يقول المجلسيّ (رحمه الله) : اتّفقت الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ على أنَّ والدي الرسول وكلّ أجداده الى آدم (عليه السلام) كانوا مسلمين ، بل كانوا من الصّديقين : إمّا أنبياء مرسلون أو أوصياء معصومون ، ولعلَّ
بعضهم لم يُظهر الإسلام لتقيّة أو لمصلحة دينيّة (4) .
الأدلّة :
تتّسم الكتب الكلامية وكتب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مالك الحنفاء : ص17 ، نقلا عن هامش البحار 15 : 121 ـ 128 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق .
(4) المصدر السابق : ص117 .
التفسير عند الشيعة بإيراد أدلّة متعدّدة سواء من القرآن الكريم أو من السّنة النبوية الشريفة ، كلّما تطرّقوا الى مسألة إيمان أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله) . وللإيجاز نكتفي بالآيتين اللتين استشهد بهما الفخر الرازي
على إيمان أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله)وهما : }الذي يراكَ حينَ تقوم * وتقلّبك في الساجدين { .
ولأننا قُمنا ببيان وتوضيح تفسير هذه الآية نقلا عن الفخر الرازيّ في الصفحات الآنفة فلا داعي لتكرار ذلك .
الروايات :
أ ـ جاء في حديث نبويّ شريف يُخاطب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يلي :
آ«يا عليّ ، إنَّ عبدالمطلب كان لا يَستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذُبِحَ على النّصب ، ويقول أنا على دين إبراهيم (عليه السلام)آ» (1) .
ب ـ قال الأصبغ بن نباتة أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال :
آ«والله ما عبد أبي ولا جدي عبدالمطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطّ . قيل فما كانوا يعبدون؟ قال : كانوا يُصلّون الى البيت على دين إبراهيم (عليه السلام)مُستمسكين بهآ» (2) .
لِمَ يُتَّهم أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله)بالشرك؟!
كلّنا نعلم أنّ زمام السلطة السياسية للإسلام ، ومصير الاُمّة الإسلامية في القرن الأول الهجري كان بيد أشخاص هم سليلو الشرك والوثنية ، فقد كان آباؤهم وأجدادهم والأقربون لهم ممّن ترعرعوا على عبادة الأصنام
والجاهلية الأولى ، وليس هذا وحسب بل إن كثيراً من آبائهم وأقوامهم قُتِلوا في سوح المعارك ، التي جرت بين المسلمين وأولئك الوثنين ، مِمّا حدا بالتأريخ الى وسَمهم بالوثنية وبعار الشرك على مدى العصور ، فكفى بهذا
الأمر دافعاً الى تنسيبهم أجداد الرسول (صلى الله عليه وآله)وآبائه الى زمرة آبائهم وأجدادهم هم ، وهو أمر كان لابد منه لحلّ معضلتهم هذه حتى يتخلصوا من لعنة التأريخ وغضب الأجيال المسلمة في المستقبل .
فقاموا ، إثر ذلك ، بنقل أحاديث ملفقة وكاذبة على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله) ، مثل :
آ«إنَّ رجلا قال يا رسول الله أين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الخصال للصدوق ، نقلا عن البحار : 15 : 144 ; ومن لا يحضره الفقيه ، باب النوادر .
(2) كمال الدين ، نقلا عن البحار 15 : 144 .
أبي؟ قال : في النار ، فلمّا قفى دعاهُ ، إنَّ أبي وأباكَ في النار!آ» (1) .
حادثة زيارة الرسول (صلى الله عليه وآله) لقبر والدته وتحريف ذلك :
ورد أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) توقّف في آ«الأبواءآ» عند قبر اُمّه آ«آمنةآ» بعد عودته من فتح مكّة ورجوعه الى المدينة . فجلسَ عند رأسها ، وبعد استذكار تضحياتها ومشاقّها ، لم يتمالك نفسه ، وشرعَ بالبكاء
حتى تأثر أصحابه وشاركوه بالبكاء والنحيب .
وقد لاحظ الصحابة جميعهم يومئذ أحاسيسه وعواطفه تجاه اُمّه في ذلك المشهد المُعَبِّر والمؤثّر ، ومدى احترامه وتقديره لها ولجهودها التي بذلتها في سبيله . وما كان لمشهد مؤثّر وحسّاس كهذا أن يُنسى بالسهولة التي
يشتبهها البعض خصوصاً في ظروف كتلك التي هيّأت له هذا الأمر وبحضور آلاف مؤلّفة من المسلمين وقتئذ من الذين يُرافقونه في هذه الرّحلة ، ولم تكن حادثة عابرة يمكن للتأريخ أن يطوي صفحتها دون وضع بصمات
لها على الصفحات التالية . إلاّ أننا نرى ، مع الأسف الشديد ، تدخل أيد ماهرة تمكّنت من تحريف الواقعة والتصرّف فيها خدمةً لأغراضهم الشخصية ، تماماً كما حصل لحادثة آ«الغديرآ» وهي أشهر
من نار على علم ، عندما اجتهدوا فيما تعنيه كلمة آ«مولىآ» المذكورة في تلك الحادثة ، وادّعوا قائلين : إنَّ مسألة زيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) قبرَ اُمّه وبكاءه عندها وإبكاءَ صحابته كذلك لا غُبار عليها ، إلاّ أن
تصرف الرسول (صلى الله عليه وآله) هذا لم يكن دليلا على إيمان اُمّه . أو شاهداً على أنها كانت مُوحّدة ، والدليل على ذلك أنَّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ذكر عبارة بعد هذه الحادثة مباشرة دلَّت دلالة واضحة على شرك
اُمّه وكفرها وهو ما يؤيّده الحديث التالي (بزعمهم) :
آ«عن أبي هريرة قال : زار النبيّ (صلى الله عليه وآله)قبر أمّه فبكى وأبكى من حوله ، فقال استأذنتُ ربّي في أن استغفر لها ، فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذِنَ لي ، فزوروا القبور فإنّها تذكّر الموتَآ» .
وقد وردَ هذا الحديث المنقول عن أبي هريرة في صحيح مُسلم (2) وسنن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم ، ج1 ، كتاب الإيمان ، باب آ«بيان أنَّ من مات على الكفر فهو في النارآ»; سُنن ابن ماجة ، الحديث (1572); سُنن أبي داود ، 2 : 532 .
(2) صحيح مسلم : ج1 ، كتاب الإيمان ، باب آ«من مات على الكفر فهو في النارآ» .
النسائي (1) وابن ماجة (2) وأبي داود (3)وتأريخ المدينة لابن شَبَّة (4) واستدلَّ أصحابُ السُنن الثلاثة المذكورة بمضمون الحديث على جواز زيارة قبور المشركين ، وأفردوا لهذا الحديث باباً خاصاً في سُننهم تحت عنوان
: آ«جواز زيارة قبر المشركآ» .
الحديث المذكور يُناقض القرآن :
لسنا في صدد الجواب عن هذا التحريف الوارد بشكل حديث ، إلاّ أننا لا نرى مفرّاً من التنويه الى ثلاث نقاط مهمة :
1 ـ يتنافى هذا الحديث ومضمون الآية الشريفة : }ولا تصلّ على أحد منهم ماتَ أبداً ولا تَقمُ على قبره إنّهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون {(5) .
فهذه الآية كما نلاحظ لا تمنع المسلم من الدّعاء والصلاة على قبر المشرك أو المنافق فحسب ، بل إنّها تحرّض بل وتنهى المسلمين كافة حتى من مجرّد الوقوف على قبورهم; لأنّهم استبطنوا الكفرَ بالله ورسوله ، ولو كان
المنافق كما هو معهود عنه يمتلك خصلة سيئة واحدة تتمثّل بكفره الباطنيّ وحقده الدفين في قلبه ، فإنَّ للمشرك خصلتين أسوأَ من تلك; لأنّ المشركين كافرون باطناً وظاهراً ، ويلهجون بالكفر بألسنتهم وقلوبهم ، وينكرون
الله ورسوله ويكفرون بهما; لذا كان من الطبيعي أن يكون ذلك النّهي أشد في المشركين منه في المنافقين ، وعدم الدعاء أو الوقوف عند قبورهم ، لا كما أدّعى ناقلو الحديث أنَّ الدعاء والوقوف عند قبر المنافق ممنوع ،
وأنّه يجوز مقابل ذلك الوقوف عند قبور المشركين دون الدعاء لهم .
2 ـ إذا كان الحديث الذي نقله أبو هريرة يدلَّ على عدم رضا الله عن آمنة ، ومنع رسوله (صلى الله عليه وآله) من الاستغفار لها ، فإنّ لدينا في مقابل ذلك حديثاً آخر نقله لنا الصحابيّ الجليل عبدالله بن مسعود أنّ رسول الله
(صلى الله عليه وآله) لما وصلَ قبر أُمّه قال : آ«هذا قبر آمنة ، دلَّني جبرائيل عليهآ» (6) ، ولا شكَّ في أنَّ حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي نقله عبدالله بن مسعود يُشير بكلّ وضوح وجلاء الى عِظَم شخصية
آمنة وقداستها حين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ج4 ، كتاب الجنائز ، باب آ«زيارة قبر المشركآ» .
(2) المصدر السابق ، ج1 ، باب آ«ما جاء في زيارة قبور المشركينآ» .
(3) 2 : 159 .
(4) 1 : ص118 .
(5) التوبة : 84 .
(6) عن عبدالله بن مسعود قال : كنّا نمشي مع النبي(صلى الله عليه وآله) ذات يوم إذ مرّ بقبر فقال : أتدرون قبرُ من هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : قبر آمنة ، دَلّني عليه جبريل . تاريخ المدينة لابن شبّة 1 : 117 .
يكون جبرائيل نفسه هو الذي دلّ الرسول (صلى الله عليه وآله) على قبرها .
3 ـ والنقطة الأخيرة هي أنَّ حديث أبي هريرة غير مقبول حتى عند بعض المحقّقين من علماء أهل السّنة أنفسهم; وذلك لصريح مخالفته لنصِّ القرآن ومنافاته له ، وكما ذكرنا فإنَّ علماء بارزين كالفخر الرازي والسيوطي
أهملوا حتى الإشارة الى هذا الحديث ، واعتقدوا بإيمان والدي الرسول (صلى الله عليه وآله)وأنّهما كانا موحّدين تماماً كما هو الحال مع علماء الشيعة ، وقاموا بتأليف عدة كُتب في هذا المضمار .
مسجد دار النابغة (أو ضريح والد الرسول (صلى الله عليه وآله)) :
إنَّ التحريف والتصرُّف اللذين طرأ كلّ منهما على حادثة زيارة الرسول (صلى الله عليه وآله)قبر أُمّه واللذين بيّنا الهدف من ورائهما وكيفية تلفيقهما ، طالا كذلك قصة قبر وضريح عبدالله بن عبدالمطّلب والد الرسول (صلى
الله عليه وآله)وزيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لذلك القبر وصلاته عنده كما سنرى ذلك ، ولن يتسنّى لنا الوقوف على إشكالات هذه المسألة إلاّ بعد تعرّفنا على تاريخ آ«دار النّابغةآ» وهو مكان دفنِ والد الرسول (صلى
الله عليه وآله)والتحوّلات التي حدثت على ذلك المكان على مرّ التأريخ :
موجز تأريخ دار النّابغة :
كان دار النابغة بيتاً يقع بين بيوت قبيلة بني النّجار في المدينة في الطرف الغربي لمسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وكانت تلك الدار لشخص من القبيلة نفسها يُدعى آ«النابغةآ» . وقد نزل عبدالله في المدينة عند هذه
القبيلة أثناء رجوعه من رحلة الى الشام; لما كانت تربط بين آمنة زوج عبدالله وبني النجار من وشائج وروابط عائلية . وحدث أن مرض عبدالله عندهم فتوفي إثر ذلك ، فووريَ جسده الطاهر الثرى في تلك الدار كما كان
متعارفاً في ذلك الزمان .
وقد سافر النبيّ (صلى الله عليه وآله) مع والدته وهو في سنّ السادسة لزيارة أهلها وقومها من بني النجار في المدينة ، فنزلا عندهم كما فعل أبوه عبدالله من قبل ، وأقاما في نفس الدار شهراً كاملا . وقد قال الرسول (
صلى الله عليه وآله) أثناء هجرته الى المدينة وخلال إحيائه لتلك الذكريات التي مرّت في طفولته : آ«قبر أبي عبدالله
داخل هذه الدار كذلكآ» .
وبسبب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) لتلك الدار في الهجرة ، وصلاته عند قبر والده في بعض الأحيان ، دُعيت تلك الدار بـ آ«مسجد دار النابغةآ» أيضاً .
وكان مؤرخو المدينة يذكرون كلتا التّسميتين لدار النابغة حتى القرن الثالث الهجري ، وقد أشاروا مراراً الى أن تلك الدار هي محل دَفن عبدالله ، وهي كذلك المسماة بـ آ«مسجد دار النابغةآ» . لكنّ الكُتّاب والمؤرخين ، وبعد
فترة وجيزة من ذلك التأريخ ، وخدمةً للمصالح الشخصية والنوايا السياسية كما نوّهنا آنفاً ، أودعوا قبر عبدالله في دار النابغة عالَم النسيان ، وجاهدوا في طيّ تلك الصفحة من التأريخ تماماً كما فعلوا مع قبر اُمّ الرسول
(صلى الله عليه وآله) وزيارة النبيّ (صلى الله عليه وآله) له ، بل حاولوا جاهدين كتم أمر دَفن عبدالله في ذلك المكان ومنع التحدّث عن ذلك أصلا! حتى غَدَت دار النابغة عند الكثيرين مجرّد مسجد لا غير .
وقد دام هذا الوضع حتى القرن العاشر تقريباً حيث اُحدِث بناءٌ جديدٌ لدار النابغة ، وتمّ نصب الضريح على القبر وبناء محراب بالقرب من ذلك الضريح ، فتمّ بذلك حفظ السّمات المهمة في تلك الدار وأعني القبر والمسجد
اللذين تضمّهما تلك الدار .
ولقد كان معظم الزائرين ، الذين لم تكن لديهم معلومات كافية عن وجود المسجد في تلك البقعة ، يعتقدون أنّ هذه الدار إنّما هي مكان دَفن عبدالله بن عبدالمطلب والد الرسول (صلى الله عليه وآله) لا كونها مسجداً كذلك .
ويسود الاعتقاد أنَّ السبب الرئيس الكامن وراء الحفاظ على هذه البقعة من قِبَلِ المسؤولين حتى عام (1976م) بالرغم من كونهم قد هدّموا تقريباً جميع الأماكن الأثرية والدينية في المدينة وسائر مُدن الحجاز قبل سبعين
سنة من ذلك التأريخ وساووها بالأرض ، هو كون تلك الدار تحمل عنوان المسجد ، لا بسبب وجود قبر عبدالله والد الرسول (صلى الله عليه وآله) الذي يعدُّ كافراً ومشركاً!
دار النابغة مكان دَفن عبدالله :
يقول الواقدي (توفي 230هـ ) عن عبدالله بن عبدالمطلب ووفاته في المدينة ما يلي :
آ«ودُفِنَ في دار النابغة ، وهو رجلٌ من بني عديّ بن النّجار . . .آ» (1) .
وقال ابن شبّة (توفي 262هـ ) أيضاً : آ«قبر عبدالله بن عبدالمطّلب في دار النابغةآ» (2) .
ونقل ابن شبة كذلك عن كتاب آ«تاريخ المدينةآ» لعبدالعزيز الذي كان معاصراً لسنة (95هـ ) قوله : آ«أنّه عُرِّف ودُلَّ على المكان الدقيق لقبر عبدالله والذي يقع في مستهل الدخول الى دار النابغة على يسار الداخل إليهاآ»
(3) .
وقال الطبري (توفي 310هـ ) : آ«ودفِنَ في دار النابغة في الدار الصغرى إذا دخلت الدار عن يسارك ليس بين أصحابنا في ذلك اختلافآ» (4) .
وتجدر الإشارة الى أن نظريات وأقوال المؤرخين ، وبالأخصّ منهم الذين كتبوا عن تأريخ المدينة حول هذا الموضوع كثيرة ومُسهبة يطول شرحها ونقلها هنا .
مسجد دار النابغة :
نقل ابن شبّة من خلال عدّة روايات أنَّ من بين الأماكن والبقاع ، التي زارها النبيّ (صلى الله عليه وآله) وصلّى فيها هي دار النابغة (5) .
ويدلّ تعدّد هذه الروايات على أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يكرّر من زياراته لتلك الأماكن والصلاة فيها ، ونستوحي من ظاهر تلك الروايات أنَّ كلّ راو للرّواية إنّما قام بتدوين ما شاهده هو بعينه ، وشرع في نقل
ذلك عِبرَ سطور مُؤَلَّفِه ، ويُستَبْعَد كونهم عاصروا بعضهم بعضاً في فترة زمنية واحدة ، وأنهم شاهدوا الرسول (صلى الله عليه وآله)يُصلي تلك الصلاة مرة واحدة فقط ، ثم يقومون بنقل ذلك من خلال عدّة روايات لهم .
وقد أشارَ السمهودي (من علماء أوائل القرن العاشر الهجري) الى مسجد النابغة هذا ضمن بيانه وعدِّه لمساجد المدينة آنئذ ، ثم ينقل كلام ابن شبّة (6)السابق مضيفاً عليه نقطتين اُخريين :
أ ـ ودار النابغة هي المرادة بما رواه ابن شبّة . قبر عبدالله بن عبدالمطلب يعني والد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دار النابغة .
ب ـ أنّ داره كانت غرب المسجد النبويّ عند بني جديلة (7) .
وقداتّبع مؤلف كتابآ«عمدة الأخبارآ» وكان معاصراً لابن شبّة نفس أُسلوبه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات 1 : ص61 ، ق1 .
(2) تاريخ المدينة لابن شبّة 1 : 116 ـ 117 .
(3) المصدر السابق .
(4) تاريخ الطبري ، طبعة لندن 2 : 76 .
(5) الطبقات 1 : 73 ، ق1 .
(6) وفاء الوفاء 3 : 867 .
(7) تأريخ المدينة 3 : 867 .
فبعد تعريفه لمسجد النابغة قام بنقل كلام ابن شبّة،الذي ذكر فيه أنَّ دار النابغة تضم كذلك قبر عبدالله كما أشرنا (1).
إلاّ أنَّ أيّاً من مُؤرخَي المدينة هذين ، وبعض آخر من الكُتّاب في القرون المختلفة ، لم يتطرّق الى مسألة قبر عبدالله على أنّها موضوع مُستقلّ .
إنَّ ما يُمكن الوصول إليه من خلال تلك الأقوال والآراء هو أنَّ الرسول (صلى الله عليه وآله)بعد هجرته من مكة الى المدينة ، ومع مشاغله الكثيرة ومهامّه الصعبة لم يَنْسَ دار النابغة على أنها قبر والده عبدالله أبداً ، وكان
إضافة الى ذلك ينوّه بين الفينة والفينة إلى أهمية هذا المكان وتأريخ القبر وما الى ذلك ، وكان غالباً ما يُصلّي عند ذلك القبر ، وهي حقيقة اعترف بها مؤرخو القرون الأولى للهجرة ، إلاّ أنَّ الاتجاه نحو كون هذا المكان
مسجداً غَلَبَ على صفة تلك الدار باعتبارها مرقداً أو ضريحاً ، وهو تحريف لحقائق تأريخية سواءٌ أكان مقصوداً أو غير مقصود .
بناء مكان قبر عبدالله وتخريبه :
ليس واضحاً لدينا ما إذا كان البناء الذي يضمّ قبر عبدالله ومسجد النابغة قبل القرن العاشر بهذا الشكل الذي نراه اليوم أم لا . إلاّ أنَّ الفترة التي تلت ذلك التأريخ كشفت عن بناء مهيب وراق نسبياً على قبر عبدالله ، قام به
بعض السلاطين العثمانيين ، ثم بنوا ضريحاً عليه وأقاموا عنده محراباً; لكي يتمّ بذلك الحفاظ على كلا عنواني المكان باعتباره مقبرة ومسجداً . وكانت تلك البقعة الطاهرة ملاذاً وموئلا للزائرين وموضع تقدير كتّاب تلك الفترة
، الذين تطرقوا الى ذكر تفاصيلها .
ومع تهديم وتخريب كافة البقاع والأماكن داخل وخارج البقيع ، إلاّ أنَّ مقبرة عبدالله ظلّت صامدة حتى عام (1976) حيث قاموا بَسدّ الباب الداخل الى المقبرة بالصخر والآجر ، ولم يكن هناك سبيل للدخول إليها .
وقد قمتُ مع جمع من الزائرين بزيارة تلك البقعة الشريفة ، الواقعة داخل زقاق ضيق ، وكان ذلك عام (1975) أثناء تأدية مناسك حجّ التمتّع ، وقد تمّت تلك الزيارة من خارج بابها ، وعند تشرّفي بالعمرة بعد عدة شهور
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عمدة الأخبار في مدينة المختار : ص194 .
من تلك الزيارة لاحظت عملية هدم تلك البقعة والبيوت والسوق ، التي كانت حولها بحجّة توسيع المسجد والساحات التي حوله ، فضُمَّت تلك الدار الى الساحة الكبيرة ، عند الجهة الغربية للمسجد ، فَتمَّ بذلك إزالة دار النابغة
تماماً ، والتي كانت تضمّ قبر عبدالله بن عبدالمطلب والمسجد الذي فيها بعد صمودها أربعة عشر قرناً .
مكان دَفن عبدالله قبل التخريب :
كما أشرنا سابقاً فقد تحدّث مؤرخو المدينة والكتّاب في القرون الأخيرة ـ كما كان شأن المؤرخين في القرون الأولى ـ عن مكان دفن عبدالله ، سواءٌ أكان ذلك الحديث طويلا مُسهباً أو قصيراً موجزاً . ومن جملة اُولئك علي
حافظ وهو كاتب من أهل المدينة ، حيث كتب في ذيل كتابه الموسوم بـ آ«قبر والد النبيّ (صلى الله عليه وآله)آ» يقول :
آ«ودُفِنَ في المدينة المنوّرة وقبره معروف لدى أهل المدينة بزقاق الطّوالآ» (1) .
وكتب إبراهيم رفعت باشا المصريّ يقول : آ«من الأضرحة التي في خارج البقيع ، ضريحٌ لعبدالله بن عبدالمطلب والد النبيّ وهو بداخل المدينةآ» (2) .
وأشار الكتّاب الفرس كذلك الى مَدفن عبدالله باعتباره بقعة طاهرة من بقاع المدينة ، من أمثال : فرهاد ميرزا (3) ، ونائب الصدر الشيرازي (4)والسيد إسماعيل المرندي (5) وعدد آخر من كُتّاب الرحلات .
وعند تشرُّف حسام السلطنة بزيارة مكة عام (1297هـ ) كتب قائلا :
آ«خرجتُ من منزلي في يوم الاثنين العاشر من محرّم قاصداً زيارة مقبرة جناب عبدالله والد الرسول (صلى الله عليه وآله)وكذلك زيارة أئمة البقيع (عليهم السلام) ، وتقع مقبرة ذلك الرجل العظيم في سوق الطوال على يسار
الزقاق ، وتحتوي المقبرة المذكورة على فناء صغير يُقابله إيوان . وتقع باب المقبرة في يسار فضاء الإيوان . كانت الباب مُغلقة ، وانتظرنا مدة من الوقت حتى تمَّ إحضار السادن ، ففتح الباب ودخلتُ البقعة وبدأنا بأداء
مراسم الزيارة ، وتحتوي المقبرة على ضريح من الخشب ، وتُحيط بمضجعه الشريف قماشة وردية مُطرّزة ، قامت بخياطتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فصول من تأريخ المدينة ، الطبعة الثانية : ص171 .
(2) مرآة الحرمين 1 : 427 .
(3) الرحلات : ص152 .
(4) الرحلات : ص232 .
(5) وَصف المدينة ، مجلة ميقات الحج ، العدد (5) : ص117 .
والدة السلطان عبدالمجيد خان في عهد السلطان عبدالعزيز خان ، وقد صلّينا ركعتين في محراب المرقد . توجد كُوّة في الجهة اليُسرى للمحراب تُفتَح على الجُنينة ، بعد ذلك خرجنا من هناك مُتّجهين نحو البقيعآ» (1) .
هذا ما كان من بحث الخلفية التأريخية لـ آ«دار النابغةآ» من وُجهتيها الُمختلفتَين ، ويمكن الاستنباط من وُجهتها الثانية ، أي مسألة إقامة رسول الله (صلى الله عليه وآله)الصلاة في تلك الدار وعند قبر أبيه العظيم ، أنها
غير منفصلة عن وُجهتها الأولى ، وهي وجود قبر أبيه (صلى الله عليه وآله) هناك حتى إنّه (صلى الله عليه وآله)كان يزور قبر والدته في حلّه وترحاله ، ويبكي عنده بُحرقة وألم ، فيُبكي أصحابه وخِلاّنه ، وكان كذلك يُقيم
الصلاة عند قبر أبيه على روحه ويدعو له ويُناجيه ، سيّما إذا علمنا أنَّ قبر أبيه كان في المدينة وبالقرب منه وفي متناول يده حتى دُعِيَ ذلك المكان بـ آ«مسجد دار النّابغةآ» وعُرِف واشتُهر به .
المصدر : مجلة ميقات الحج السنة الخامسة ـ العدد العاشر ـ 1419هـ .