الزواج الميمون
في الزمان الغابر والامد البعيد .. في ربوع مكة شهدت الدنيا اعظم عقد نكاح عرفته البشرية ، لان نتاج هذا العقد المبارك كان خيراً وبركةً على الدنيا كلها .
كان عبدالله بن عبدالمطلب الهاشمي فتى يعد زهرة فتيان قريش وقمر نجومها الزاهر .. وقد اصبح ملئ الاسماع والابصار .. فهو الشاب الجميل القسيم قوي البنيان بهي الطلعة تلوح علائم الحسن على وجهه النضر ، علاوة ذلك فعبدالله هو الحسيب النسيب الشريف ، الطاهر منبتاً .. اذاً فلا عجب ان يغدوا مطمع الآمال ، وغاية الاماني .. وحرزاً للغيد الحسان من شريفات وفضيلات قريش ، بان يصرن زوجاً لهذا الفتى الكريم النبيل ؟!
كانت آمنة بنت وهب الزهرية زهرة قريش ودرتها ، فقد نشات نشاة عطرة ، فشذا سيرتها المعطار ينبعث من بيتها ، فتملا اسماع مكة ، وتدل على ادبها الكامل ، وتشير الى طهرها وطهارتها وعفتها .. ومع مرور الايام اضحت فتاة بني زهرة في مصاف النساء .. وغدت احدى عقيلات بني زهرة اللواتي يضرب بهن المثل في الجمال والكمال الاخلاقي ، ناهيك بالحسب الزاكي ، والنسب الرفيع ، والمجد العريق …
وفكر عبدالمطلب فيمن تكون قرينة لابنه الاثير الوسيم المفدى من الذبح .. فهداه تفكيره الى الحسيبة المعرقة في النسب فتاة بني زهرة ..
وتقدم عبدالمطلب الى وهب بن عبدمناف ، ليخبره برغبته في زواج عبدالله بآمنة ، فرحب وهب وفرح بذلك ، وابلغ زوجته فتهلل وجهها سروراً وغبطةً ؛ وراحت الام تحمل بشرتها الى ابنتها الجميلة ، وطار قلب آمنة فرحاً وطرباً لما سمعت تلكم الكلمات العذاب وهي تنبعث من فم امها : ياآمنة ان عبدالمطلب سيد قريش قادم ليزوجك لابنه عبدالله .. وانتشر النبا العظيم في انحاء مكة كلها ..
وجاء الموعد المحدد لعقد اعظم نكاح عرفته البشرية وتم العقد في جو مليئ بالفرح والسرور والغبطة الى اقصى حد يمكن ان يصل ؛
وبنى عبدالله بآمنة .. ولم تشهد الدنيا كلها بمثل هذا البناء..
نعم .. لقد كانت ليلة بناء عبدالله بآمنة ليلة لها قدرها ، وما من احد قدر عظم تلك الليلة الا الواحد الاحد .. فقد كانت بحق ليلة مباركة متفردة من ايام الزمان ، بل لم يجد الزمان من قبل بمثلها .. ليلة قدر لها بان تكون مبدا من سيجعله الله رحمة العالمين ، كانت ليلة طيبة العبير ، ندية الاريج ملا شذاها ارجاء الدار ، بل ارجاء الدنيا كلها ، اذ حملت آمنة بنور الهدى والرحمة المهداه محمد صلى الله عليه وسلم .
وتمر الايام على عبدالله وآمنة كاعذب واندى ايام تمر على عروسين حبيبين .. ويستعد عبدلله للخروج مع قومه للتجارة ..
وحانت ساعة الرحيل ودق جرس الفراق .. وودع عبدالله زوجته الحبيبة التي ملكت كل كيانه ، ولم يدر عبدالله ان هذا هو الوداع الاخير ؛ وخرج عبدالله من بيته بعد ان القى نظرة حانية على زوجته العروس ؛ وانطلق عبدالله حيث العير ، واذا بابيه عبدالمطلب يحف به ابناءه كالقمر ومن حوله النجوم . وودع عبدالله ابيه واخوته , وسبقت دموع عبدالمطلب على وجنتيه لشيئ ما احسه .
مرت الايام ثقيلة على نفس آمنة وكانها اعوام ، وهي ترقب من حين لاخر عودة الزوج الحبيب .. واقترب موعد العودة .. وهاهي قافلة قريش تدنو من الحرم كان الليل قد نشر سرباله الاسود على مكة وغابت نجوم السماء تاخذ مضاجعها ، وهجع الكون ، وانتشر السكون ، الا نسوة كن ساهرات ، لم تعرف عيونهم النوم .. وهناك بالقرب من الحرم راحت آمنة بنت وهب ترقب القادمين خافقة القلب ، هاهي القافلة اخذت طريقها داخل مكة ، واقتربت من الحرم وحط الرجال رحالهم ، .
عند ذلك خفق قلب آمنة بين اضلاعها ، ودق دقات عالية .. وتسابق رجال مكة لاستقبال العائدين ، وخرج عبدالمطلب وابناءه لاستقبال عبدالله ، اين عبدالله .. وارتفع صوت عبدالمطلب وهو ينادي عبدالله . عبدالله . اين عبدالله؟؟
ولكن فتى قريش الغض اليافع الوسيم لم يكن بين جموع العائدين ……
واقبل زعيم القافلة فتوجه اليه عبدالمطلب كالسهم هو واولاده وقال له : اين عبدالله ؟ .. سؤال محرج غاية الاحراج جعلت نفس الرجل تذهب شعاعاً .. ولكنه تصنع الهدوء وقال في نبرة حزن : لقد خلفنا عبدالله عند اخواله بني النجار مدنفاً(1)..
وقعت الكلمة على نفس عبدالمطلب واخوته كالصاعقة , وشعر عبدالمطلب بان يدا قوية تجذب قلبه وتهصره(2) , وتذكر زوجة ابنته آمنة بنت وهب فكادت تنهار عزيمته , ….فماذا يقول لها ؟؟!
وعاد عبدالمطلب وبنوه الى دار عبدالله ، حيث تنتظر آمنة عودة الحبيب ، وقلوبهم تتجاذبها مشاعر شتى من الرحمة والحزن والاسى والاشفاق والشوق لعبدالله ، ولما راتهم آمنة وعبدالله ليس معهم اشتد وجيب قلبها ، وزاد خفقانه ، وتدفقت مشاعر متباينة الى نفسها ، ولفها خوف شديد لما رات عبدالمطلب باسر الوجه … فارتسمت على وجهها علامات الذهول والرعب ، ولمح ذلك عبدالمطلب في محيا آمنة ، وقال لها :
لاتخافي ياآمنة ان عبدالله بخير .
قالت : اين عبدالله .
قال : هو بخير عند اخواله بني النجار في المدينة .
قالت : ولم لم يعد مع العائدين ؟
قال : انه مريض هناك .
واراد عبدالمطلب ان يمزق السكون البغيض الذي حل بدار عبدالله ، ويغرس مكانه الطمانينة في قلب آمنة فقال لها : سارسل اخاه الحارث الى المدينة كيما يعود بزوجك عبدالله بعد شفاءه .
وفي صبيحة تلك الليلة ، كان الحارث بن عبدالمطلب يسير نحو المدينة مودعا ابيه واهله وذويه ، والسنتهم تلهج بالدعاء كي يشفى عبدالله من مرضه ….
وما ان وصل الحارث الى المدينة حتى علم ان اخاه عبدالله قد مات غريبا وقبر في دار النابغة احد بني عدي بن النجار , … عاد الحارث ادراجه قافلا الى مكة كسير النفس مهيض الجناح ، … وصل الحارث مكة وحطت ناقته بفناء الكعبة ….. ووصل الخبر الاليم الى آمنة ، فاثار الحزن والاسى في نفسها … وراحت ترثي زوجها وحبيبها وتقول :
عفا جانب البطحاء من آل هاشم … وجاور لحدا خارجا في الغمائم(الاكفان)
دعته المنايا دعوة فاجابها … وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
عشية راحوا يحملون سريره … تعاوره اصحابه في التزاحم .